سورة التوبة - تفسير تفسير الماوردي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


قوله عز وجل {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} وفي نوره قولان:
أحدهما: أنه القرآن والإسلام، قاله الحسن وقتادة.
والثاني: أنه آياته ودلائله لأنه يهتدى بها كما يهتدى بالأنوار.
وإنما خص ذلك بأفواههم لما ذكرنا أنه ليس يقترن بقولهم دليل.
{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} وليس يريد تمامه من نقصان لأن نوره لم يزل تاماً. ويحتمل المراد به وجهين:
أحدهما: إظهار دلائله.
والثاني: معونة أنصاره.
قوله عز وجل {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلى خلقه بالهدى ودين الحق.
وفيها أربعة تأويلات:
أحدها: أن الهدى البيان، ودين الحق الإسلام، قاله الضحاك.
والثاني: أن الهدى الدليل، ودين الحق المدلول عليه.
والثالث: معناه بالهدى إلى دين الحق.
والرابع: أن معناهما واحد وإنما جمع بينهما تأكيداً لتغاير اللفظين.
{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} فيه ستة تأويلات:
أحدها: يعني عند نزول عيسى عليه السلام فإنه لا يعبد الله تعالى إلاّ بالإٍسلام، قاله أبو هريرة.
والثاني: معناه أن يعلمه شرائع الدين كله ويطلعه عليه، قاله ابن عباس.
والثالث: ليظهر دلائله وحججه، وقد فعل الله تعالى ذلك، وهذا قول كثير من العلماء.
والرابع: ليظهره برغم المشركين من أهله.
والخامس: أنه وارد على سبب، وهو أنه كان لقريش رحلتان رحلة الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن والعراق فلما أسلموا انقطعت عنهم الرحلتان للمباينة في الدين فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى عليه: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} يعني في بلاد الرحلتين وقد أظهره الله تعالى فيهما. والسادس: أن الظهور الاستعلاء، ودين الإسلام أعلى الأديان كلها وأكثرها أهلاً، قد نصره الله بالبر والفاجر والمسلم والكافر، فروى الربيع بن أنس عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهِ يُؤَيِّدُ بِأَقْوَامٍ مَا لَهُم فِي الأَخِرَةِ مِن خَلاَقٍ».


قوله عز وجل {يَآ أَيُّهَا الَّذِِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُون أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} الآية: في قولان:
أحدهما: أنه أخذ الرشا في الحكم، قاله الحسن.
والثاني: أنه على العموم من أخذه بكل وجه محرم.
وإنما عبر عن الأخذ بالأكل لأن ما يأخذونه من هذه الأموال هي أثمان ما يأكلون، وقد يطلق على أثمان المأكول اسم الأكل، كما قال الشاعر:
ذر الآكلين الماء فما أرى *** ينالون خيراً بعد أكلهم الماء
أي ثمن الماء.
{وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه منعهم من الحق في الحكم بقبول الرشا.
والثاني: أنه منعهم أهل دينهم من الدخول في الإسلام بإدخال الشبهة عليهم. {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وفي هذا الكنز المستحق عليه هذا الوعيد ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن الكنز كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤدَّ زكاته، سواء كان مدفوناً أو غير مدفون، قاله ابن عمر والسدي والشافعي والطبري.
والثاني: أن الكنز ما زاد على أربعة آلاف درهم، أديت منه الزكاة أم لم تؤد، قاله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقد قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة، وما فوقها كنز.
والثالث: أن الكنز ما فضل من المال عن الحاجة إليه،
روى عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد قال: لما نزل قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تبّاً لِلذَهَبِ وَالْفِضَّةِ» قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال عمر ابن الخطاب: أنا أعلم لكم ذلك، فقال: يا رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم وقالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال: «لِسَاناً ذَاكِراً وَقَلْباً شَاكِراً وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى دِينِه». وروى قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة صدي بن عجلان قال: مات رجل من أهل الصفّة فوجد في مئزرة دينار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كَيَّةٌ» ثم مات آخر فوجد في مئزره ديناران فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كَيَّتَانِ» والكنز في اللغة هو كل شيء مجموع بعضه إلى بعض سواء كان ظاهراً على الأرض أو مدفوناً فيها، ومنه كنز البُرّ، قال الشاعر:
لا دَرَّ دري إن أطعمت نازلهم *** قِرف الحتى وعندي البُرّ مكنوز
الحتى: سَويق المقل. يعني وعندي البُرّ مجموع.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} فذكر جنسين ثم قال {وَلاَ يُنفِقُونَهَا} والهاء كناية ترجع إلى جنس واحد، ولم يقل: وَلاَ يُنفِقُونَهَما لترجع الكناية إليهما.
فعن ذلك جوابان:
أحدهما: أن الكناية راجعة إلى الكنوز، وتقديره: ولا ينفقون الكنوز في سبيل الله.
والثاني: أنه قال ذلك اكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر لدلالة الكلام على اشتراكهما فيه، كما قال تعالى {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} [الجمعة: 11] ولم يقل إليهما، وكقول الشاعر:
إن شرخ الشباب والشعر الأسود *** ما لم يُعاص كان جنوناً
ولم يقل يعاصيا.
ثم إن الله تعالى غلَّظ حال الوعيد بما ذكره بعد هذا من قوله:
{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} وإنما غلظ بهذا الوعيد لما في طباع النفوس من الشح بالأموال ليسهل لهم تغليظ الوعيد إخراجها في الحقوق.


قوله عز وجل {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شهْراً} يعني شهور السنة، وإنما كانت اثني عشر شهراً لموافقة الأهلة ولنزول الشمس والقمر في اثني عشر برجاً يجريان فيها على حساب متفق كما قال الله تعالى {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5].
{مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} يعني أن من الاثني عشر شهراً أربعة حرم، يعني بالحرم تعظيم انتهاك المحارم فيها، وهو ما رواه صدقة بن يسار عن ابن عمر قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في وسط أيام التشريق فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ فَهُوَ اليَومُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهراً مِنهَا أَرْبَعَةٌ حَرُمٌ، أَوّلُهُنَّ رَجَبُ مُضَرَ بيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ».

{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} فيه وجهان:
أحدهما: أي ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوفي، قاله ابن قتيبة.
والثاني: يعني القضاء الحق المستقيم، قاله الكلبي.
{فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} فيه أربعة أوجه:
أحدها: فلا تظلموها بمعاصي الله تعالى في الشهور الاثني عشر كلها، قاله ابن عباس.
والثاني: فلا تظلموها بمعاصي الله في الأربعة الأشهر، قاله قتادة.
والثالث: فلا تظلموا أنفسكم في الأربعة الأشهر الحرم بإحلالها بعد تحريم الله تعالى لها، قاله الحسن وابن إسحاق.
والرابع: فلا تظلموا فيها أنفسكم أي تتركوا فيها قتال عدوكم، قاله ابن بحر.
فإن قيل: فلم جعل بعض الشهور أعظم حرمة من بعض؟
قيل: ليكون كفهم فيها عن المعاصي ذريعة إلى استدامة الكف في غيرها توطئة للنفس على فراقها مصلحة منه في عباده ولطفاً بهم.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9